جيوبولتيكية نقمة المكان
(كوردستان قدر الجغرافية وتبعات التاريخ) ا.د. فؤاد حمه خورشيد
هذا الفصل بالكامل من كتاب الجيوبوليتكس المعاصر للاستاذ الدكتور فؤاد حمه خورشيد ، الفصل الثالث من الكتاب ، وجميع حقوق الملكية الفكرية محفوظة للاستاذ الدكتور فؤاد .
وأي نقل او اقتباس دون ذكر المصدر والمرجع الأساسي للدكتور فؤاد فهو سرقة علمية واضحة وانتهاك لحقوق الملكية الفكرية.
المدخل:
يحضى المكان، وموقعه، في الدراسات الجغرافية باهتمام خاص ومتميز، لما له دوره البارز في التحليلات الجغرافية في إظهار نتائج وتبعات ذلك الموقع، من النواحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والسلوكية والجيوبولتيكية، وبيان أثرها على مصير سكانه ومستقبلهم السياسي، سواء أكان ذلك المكان، إقليما، أو دولة، أو قارة بأكملها. وقد تمتع مكان كوردستان وموقعها الجغرافي، عبر التاريخ، بقيمة جيوستراتيجية و جيوبولتيكية كبيرة للاعتبارات التالية:
1- موقعها الجغرافي الخطير الذي جعل من جغرافيتها التاريخية مسرحا جيوبولتيكيا لتقرير نتائج ومصير العديد من المعارك الإمبراطورية، للعديد من الأمم الغازية (لوقوعها عند حافات تلك الإمبراطوريات وفي ملتقى طرق الحضارات)[2]، مشكلة بذلك (جسرا يربط هضبة الأنضول بهضبة إيران والذي انتقلت عبره حضارات الشرق والغرب)[3]. وكما يقول البروفسور سولكي: (إذا كان الشرق الأوسط هو ملتقى تلك الطرق العالمية فأن كوردستان هي قلب ذلك الشرق الأوسط)[4]. من هنا تنبع مطامع الحكومات والدول المجاورة واهتماماتها بأرض كوردستان وجبالها وثرواتها، فهي حلقة الوصل الجغرافية الرابطة ما بين أواسط أسيا، وجنوب غربها من ناحية، وما بين قارات العالم القديم من ناحية ثانية*.
2- مساحة كوردستان التي تقدر بـ(500،000) كيلومترا مربعا[5]، والتي تعتبر من الحجوم الكبيرة في مقاسات الدول حسب تصنيفات الجغرافية السياسية[6]. تغطي معظم هذه المساحة سلاسل جبال زاجروس وأنتي طوروس ألبالغ طولها في كوردستان حوالي 1900كم والممتدة من مشارف خليج الاسكندرونة غربا وحتى الزاوية الشمالية الشرقية للخليج العربي مشكلة إحدى دعائم القوة لهذه البلاد من الناحيتين الدفاعية والاقتصادية نظرا لامتدادها الجبلي المحيطي الواسع، إضافة الى كونها كانت منذ العصور التاريخية، ولا تزال، (الوطن القومي للأمة الكوردية)[7]، و (موطن الكورد الأول)[8].
5- ان الأهمية الجغرافية الكبرى لمكان كوردستان من النواحي العسكرية والاقتصادية جعلت من هذه البلاد مسرحا لمعارك كبيرة لجيوش
أجنبية،في عهود بربرية القوة الشاملة،التي لاتعترف سوى بقوة السيف لتقرير النتيجة النهائية للحرب. لذا فأن كوردستان أصبحت حينذاك ساحة معارك لتقرير المصير الجيوبولتيكي للقوى المتصارعة والعابرة لجبال كوردستان، أي إنها تحولت الى ساحة صراع لتقرير المصير، أو كما تسمى في الجيوبولتيكس، الى منطقة ارتطام (crush zone) بين الجيوش المتصارعة فوق ترابها. صحيح ان جغرافية جبال كوردستان كانت لها منافع على الشعب الكوردي، من ملاذ آمن، واقتصاد ذو اكتفاء ذاتي، والمحافظة عليه من مخاطر الإبادة لتلك الغزوات والهجمات المدمرة، لكن هذه المنافع أثارت عليه نقمة وحسد الشعوب الأخرى القريبة والبعيدة معا، وهذا هو قدر الجغرافية الذي كان على الشعب الكوردي ان يتحمل نتائج
6- لقد تحمل الشعب الكوردي الكثير من مآسي تلك الغزوات، سواء أكان مقاوما لها، أو واقفا منها موقف الحياد، أو أرغم على مواجهتها. فقد تعرضت قراه ومدنه وحقوله ومزارعه وثرواته الحيوانية للنهب والسلب والتدمير، كما تعرض هو نفسه للكثير من أعمال
السخرة والاضطهاد والقتل الجماعي والتهجير ألقسري لقبائله بالجملة الى خارج كوردستان، فالغزاة لم يأبهوا بسكان المناطق التي تجتاحها جيوشهم، بقدر ما كانت تهمهم المكاسب العسكرية، وضم الاراضي، وتأسيس الإمبراطوريات، وتلك كانت تبعات التاريخ التي كان على الشعب الكوردي ان يتحمل نتائجها هي الأخرى، مرغما.7- وبسبب القدر الجغرافي وتبعاته التاريخية المشار إليها آنفا، وانعدام سلطة كوردية مركزية في كوردستان الموحدة، تحولت ارض كوردستان الى ساحة تتصارع فوقها جيوش الإمبراطوريات المختلفة، فصبت الجغرافية، سياسيا وعسكريا واقتصاديا، نقمتها الجيوبولتيكية على الأمة الكوردية وبلادها بما نسميه بـ(جيوبولتيكية نقمة المكان)، لأن
الكورد في النتيجة تحملوا، هم وحدهم، تبعات موقع بلادهم البيني والإستراتيجي بكل خصائص المكان الجغرافية، كإقليم متميز، دفاعيا واقتصاديا وبشريا، وسط أقاليم وبيئات فقيرة وحتم عليهم هذا الموقع الخطير والمتميز لبلادهم ان يدفعوا ضريبة هذا (المكان)، الذي حدد مصيرهم السياسي، وتبعية بلادهم الإدارية السياسية، وفقا لنتائج كل معركة كانت تدور بين المتصارعين من الغزاة.
8- ألمكان والقوة:
من مجمل ما تقدم لخصائص مكان كوردستان، وموقعها الجغرافي، يمكن التعميم بان أهميتها الجيوستراتيجية والتعبوية، وطرق إمداداتها جعلتها، في الجغرافية الكلاسيكية والحديثة لقارة أسيا، واحدة من أهم الأقاليم الجبلية الضامنة للنصر والسيطرة لأية قوة، كبيرة ومنظمة، غازية لغرب أسيا، ان توفرت لديها إحدى هذه الفرضيات الجيوبولتيكية و الجيوستراتيجية:-
1- ضمان قوة ضاربة منظمة تتمكن من اختراق الممرات الستراتيجية لجبال كوردستان والتحكم بمفاتيح طرقها الشرقية والغربية، وتحويل هذه الجبال بسماتها الدفاعية ظهيرا، من اجل التوسع والاندفاع نحو الجانب الأخر من كتلتها الجبلية.
2- جر العدو الى معارك مصيرية في حافات نطاق هذه الجبال، وفي مواقع مختارة، لضمان النصر، أو إلحاق الهزيمة النهائية بقواته.
3- ان استحال تنفيذ الفرضيتين (1) و (2) فأن جيوبولتيكية التمركز، أو احتلال نصف هذه المنطقة الجبلية، في الأقل، يجعل (توازن القوى) ممكنا بين القوتين الغازيتين، لأن السمة الدفاعية والأمنية والاقتصادية لهذه الجبال ستكون ممنوحة مناصفة لكل طرف.
4- ان تعذر تحقيق (1) و (2) و (3) فأن الحل الجيوبولتيكي يفرض على أحد الطرفين ان يتبنى اختيار تكتيك
المعركة المصيرية في احد المواقع الجغرافية لهذه الجبال، أوفي احد ممراتها الستراتيجية أو احد مواقعها الهامشية وضمان الانتصار على الطرف الأخر في معركة حاسمة وفرض ألأمر الواقع عليه.9- نقمة المكان والحرب:
1- من عام 612 ق.م وحتى عام 1514م (اى عبر 2126 سنة) لا نعتقد بأن وطنا زحفت عليه جيوش غازية، وعابرة، ومحتلة، ومدمرة في التأريخ القديم والوسيط والحديث، مثلما عانت ارض كوردستان من ويلات هذه الجيوش وصراعاتها القاسية لكل تلك الفترة الطويلة من الزمن.
2- كانت لبعض تلك الغزوات آثار خطيرة، محليا، وإقليميا وعالميا. فقد قتلت تلك الحروب، التي دارت رحالها فوق ارض كوردستان، عشرات الآلاف من البشر، وغيرت نتائج معاركها معالم بعض الأقاليم الاثنية والديموغرافية، وقضت على حكومات وخلفت
إمبراطوريات، لأن تلك الغزوات لم تكن لتلتزم بأي شيء من تقاليد الرأفة أو الشفقة أو الرحمة حتى على سكانها المحليين، بل كانت تهتم، فقط، بإستراتيجية كسب الأرض والغنائم المادية والفتوحات العسكرية وتأسيس الإمبراطوريات. لذا فان ارض كوردستان كانت تبعا لذلك ساحة لتلك المعارك المصيرية التي خاضتها جيوش تلك القوى الأجنبية المتصارعة والمتنافسة التي غيرت بعض غزواتها، تاريخ المنطقة لفترة غير قصيرة من الزمن، لكنها في كل الأحوال لم تستطيع تغيير معالم كوردستان الاثنية، كوطن قومي للشعب الكوردي، مع ان أوطانا أخرى تغيرت سماتها الاثنية بسبب الهجرات البشرية التي تسببت بها تلك الحروب.3- لقد فرضت جغرافية المكان على الأمة الكوردية ان تواجه، أو أن تتحمل، مرغمة، ما آلت إليه نقمة هذه الجغرافية من ويلات على بلادها جراء تلك
الهجمات والغزوات الدامية سواء أكانت آتية من الشرق: من أسيا الوسطى، أو من الغرب: من اليونان أو أرض العرب. فالغزاة الآتون من الشرق (الفرس، المغول، التتار، والتركمان)، كان عليهم ان يجتازوا جبال كوردستان واحتوائها قبل ان يتمكنوا من الهبوط غربا نحو سهول بلاد مابين النهرين أو دخول الأنضول. وعلى عكس ذلك، كان على غزاة الغرب (كالمكدونيين والبيزنطيين والعرب والترك) ان يجتازوا كذلك جبال كوردستان واحتوائها ليتمكنوا من التوجه شرقا نحو إيران واسيا الوسطى، فبدون ذلك فان جغرافية المكان لجبال كوردستان كانت تشكل عقبة كأداء أمام أي اجتياح عسكري لها ما لم تقدم في سبيل ذلك تضحيات جسام. وان تصادف ان تواجهت قوتان متصارعتان لاحتواء كوردستان وتعذر على إي منهما تحقيق ذلك الاحتواء، وتخندق كل طرف فوق نصف أو جزء من هذه البلاد، فأن من شأن ذلك، ان يخلق بينهما نوعا من توازن القوى. عندئذ سيكتفي كل طرف باحتلال ذلك الجزء والتخندق فيه فترة، قد تطول أو تقصر، ومعنى ذلك ابتلاء الأمة الكوردية بأكثر من محتل واحد، في زمن واحد، لأراضيها.4- لقد تم اختيار خمسة معارك
تاريخية حاسمة كنماذج صارخة على خطورة الموقع الجغرافي لأرض كوردستان بطبيعتها الطبوغرافية الجبلية ووظيفتها الجغرافية البينية والعازلة، وبإمكانياتها الاقتصادية الزراعية والرعوية المتواضعة. فهذه المعارك المصيرية، باستثناء الأولى منها، والتي دارت رحاها جميعا فوق المسرح الجغرافي لهذه البلاد الكوردية، كان لها شأن خطير في مجمل التأريخ الكوردي، وتأريخ المنطقة والعالم القديم بأسره، لأنها دللت بما لا يترك الشك أو الشبهات على (جيوبولتيكية نقمة مكان كوردستان) على الأمة الكوردية، لأنها كانت ألأمة الوحيدة المتضررة من هذه النقمة الجغرافية رغما عنها. أما المعارك الخمس حسب تسلسلها الزمني فهي:-
1- معركة نينوى عام 612 ق.م.
2- معركة كوكاميلا عام 331ق.م.
3- معركة نهاوند عام 642 م.
4- معركة ملاذ كورد عام 1070م.
5- معركة جالديران عام 1514م.
وفيما يلي أهم النتائج الجيوبولتيكية المترتبة على نتائج هذه المعارك:
1- معركة نينوى 612 ق.م:
كان الميديون في صراع دائم مع الأشوريين، مثلما كان البابليون يواجهون، هم أيضا، الضغوط الأشورية. لقد أرهبت الدولة الأشورية، بغاراتها المتكررة على القرى والمستوطنات الميدية، سكان ميديا الذين كانوا يدافعون عن بلادهم ضد تلك الهجمات قبل وبعد تأسيس الدولة الميدية ولحين سقوط الدولة الآشورية وانتهاء دورها في التأريخ القديم. لم يخطط الميديون هجومهم الشامل والنهائي على بلاد آشور إلا زمن ملكهم الثاني كيخسرو ((cyaxares للإطاحة بهذه الدولة التي لازمتهم العداء. ففي 615 ق.م جهز الملك الميدي كيخسرو جيشا منظما من المشاة والخيالة والعربات الحربية لضرب قلبي المملكة الآشورية، مدينتي آشور ونينوى، من جهتي الشمال والشرق والغرب، وتم له ذلك في عام 614ق.م فدمر مدينة آشور أولا، وفي عام 612 وصلت القوات البابلية بقيادة الملك نبوبلاسر، للمساهمة في ذلك
الحصار، من الجنوب والغرب والتعاون مع القوات الميدية في إسقاط الدولة الآشورية. وعند أسوار نينوى أتفق الملكان، الميدي والبابلي، على عقد معاهدة تعاون عسكري لضرب وإسقاط الدولة الآشورية واحتلالها[20]. وقد عزرت هذه المعاهدة، فيما بعد، بزواج ملكي حيث زوجت الأميرة (اماتيس) ابنة الملك الميدي كيخسرو الى نبوخذ نصر بن الملك البابلي نبوبلاسر[21].وفي مايس في عام 612ق.م ساهم الجيشان ألميدي والبابلي في معركة نينوى بعد حصار لها دام ثلاثة أشهر، أسفر عن اجتياح المدينة وتدميرها وقتل وأسر من فيها وكان من بين القتلى آخر ملوك آشور (سن- شار- أشكوم). وبموته ماتت الدولة الأشورية التي أقلقت المنطقة فترة طويلة من الزمن، وتشكلت على أنقاضها قوتان
عظيمتان، بمقياس الجغرافية السياسية لذلك الزمن، هي: الإمبراطورية الميدية التي امتدت أرجاؤها من افغانستان شرقا وحتى نهر (هاليس) قزيل أيرمق في وسط تركيا الحالية[22]، والدولة البابلية التي امتدت الى الغرب منها في الهلال الخصيب وكان السور الميدي في وسط العراق الحالي يفصل مابين أراضي الدولتين الحليفتين.(أنظر الخارطة)ان احد التفسيرات الجغرافية، للصراع الميدي-الأشوري، يعزى الى تفاوت قدرات بيئتي الطرفين، جبال ميديا وسهول نينوى. لذلك تقول المس سامبل (ان السهول تملك ما لا تملكه الجبال، هذه حقيقة أساسية في الجغرافية الاقتصادية، فقد قاد ذلك الى أحداث تاريخية وصراعات، وما هجوم الميديين الجبليين على أشور وتدميرهم لنينوى ألا صراع من هذا النوع[23]).
ان سقوط نينوى على يد الميديين هز العالم القديم. لقد وصف الرسول اليهودي نحوم (Nahum) الجيوش الميدية المهاجمة على المدينة التي كانت ذات يوم سيدة مدن الشرق الأوسط بما يلي[24]:
المهاجمون قادمون يا نينوى
والمحاربون يرتدون ألبزات القرمزية
بمركباتهم الحربية ألتي تحمل الحديد
في يوم استعدادهم للهجوم
لوحوا مهددين برماحهم المسمارية
مركباتهم الحربية كانت تعصف في الشوارع
مندفعة نحو الأمام والخلف عبر الباحات
تبدو أشبه بالمشاعل المتوهجة
ترشق السهام كالبرق
لقد استدعيت قطعات النخبة
التي كانت تتزاحم في الطرقات
نحو أسوار المدينة، اندفعوا
لقد وضع الدرع الحامي في المكان المناسب
اقتحمت منافذ النهر، وتم العبور… انهار ألقصر، واستولي عليه.
حدود الإمبراطوريتين الحليفتين الميدية والبابلية بعد سقوط آشور
من نتائج معركة نينوى هذه تحول جيوبولتيكية (نقمة المكان) لأول مرة في التأريخ الكوردي القديم لتصب غضبها على الدولة الأشورية أولا، وبالمنفعة على الأمة الكوردية ثانيا، فبعد هذه المعركة تحرر الشعب وخضعت كل سلاسل جبال زاجروس (كوردستان) وانتي طوروس لجيوش الميديين، وهذا مكن الشعب الميدي من ان يصبح قوة كبرى مهابة الجانب في غرب أسيا حكمت من عام 700-550ق.م، هو عمر الإمبراطورية الميدية (الكوردية)[25]، وهذا ما يتلاءم مع الفرضية الأولى من الفرضيات التي سبق ذكرها.
ومن وجهة النظر الجيوبولتيكية ليس هناك من شك في ان هذه المعركة غيرت مجرى تأريخ غرب أسيا برمته، فقد خضع هذا الجزء الواسع من القارة، بما فيها كوردستان، للسيادة الهيلينية لقرون عديدة، وتأثر سكانها بالثقافة
اليونانية الكلاسيكية علما وأدبا. وهذا الانتصار الساحق للاسكندر المكدوني في الموقع الذي اختاره، يتفق والفرضية الثانية من الفرضيات التي اعتمدها البحث.
3- معركة نهاوند عام 641 ميلادية:
ان اخطر ما مارسه السلاجقة والموجات التركية اللاحقة ضد الأقاليم، التي اجتاحوها واحتلوها وحكموها، هو محاولتهم العبث في مكونات تلك الأقاليم الاثنوغرافية ومحاولة تتريكهم وتهجيرهم بالقوة، وفرض لغتهم وحضارتهم عليهم بالإكراه، وخاصة بعد ان انتشرت جيوشهم القاسية التي خلت ضمائرها من الشفقة أو الرحمة، فنهيت المحاصيل وهدمت البيوت وخطفت النساء واحترقت الحقول والبساتين وهجرت السكان، كما حدث ذلك في أذربيجان التي تمكنوا من تتريكها، وكذلك تتريك هضبة الأنضول والقسم الغربي في أسيا الصغرى، ومن ثم توارثوا الحكم، بعد إسلامهم، الذي ساعدهم على فرض سلطتهم وسياستهم تلك. ولعل اخطر ما في نتائج احتلال السلاجقة الأتراك لكل الأراضي الممتدة من أواسط أسيا حتى القدس، كما يقول فيرجريف، هو بدء الحروب الصليبية في ذلك الوقت لأنهم قضوا على الإمبراطورية الرومانية الشرقية عام 1453.[32]
5- معركة جالديران (Chaldiran):-
أحد أشهر المعارك التي خاض غمارها الأجانب فوق أديم كوردستان. وقعت هذه المعركة فوق سهل جالديران، قرب قرية جالا آشاخي، على بعد ستة كيلومترات الى الغرب من مدينة سياجه شمه، جنوب مدينة ماكو الكوردستانية، في 23أب 1514م بين الجيش الإيراني (ألصفوي) بقيادة الشاه إسماعيل ألصفوي والجيش العثماني (التركي) بقيادة السلطان سليم الأول، حيث حشد الإيرانيون جيشا بلغت تقديراته 100000 مقاتل، في حين جند العثمانيون لهذه المعركة بحدود40000 مقاتل[35].
أما على الصعيد الكوردي فقد أرغمت جيوبولتيكية نقمة المكان في هذه المعركة، الدولة العثمانية على القبول باستقلال الإمارات الكوردية ضمانا وتأكيدا لحماية حدودها في هذا الجزء من كوردستان ضد التوسع الإيراني والتسليم بإداراتها الذاتية تحت قياداتها المحلية. وجدير ذكره هنا (ان الأمراء الكورد وقعوا بعد هذه المعركة، في عام1516 مع الدولة العثمانية على اتفاقية مكنت الدولة العثمانية من إلحاق كوردستان الكبرى (الأصح النصف الغربي منها. ف) بالدولة العثمانية مقابل احتفاظ الكورد بإماراتهم وحكوماتهم ذات الحكم الذاتي[39]. إلا كسواتر دفاعية أمامية للدولة العثمانية لمواجهة الدولة الصفوية الشيعية، وكان ذلك
التوجه العثماني يمثل ضرورة أمنية لخدمة تلك المرحلة وليس إيمانا منها بحقوق الكورد الوطنية والسياسية، لذا فان الأمر لم يدم طويلا، فسرعان ما انقلب السلاطين العثمانيين اللاحقين على الكورد، وخاصة بعد حكم السلطان محمود الثاني (1809-1890)، إذ أصدرت الحكومة العثمانية عام 1826 قرارا بالقضاء على الإمارات الكوردية وأمرت بتعيين حكام ترك محلهم، مما أدى الى توالي الثورات القومية الكوردية في تلك الدولة[40].
الأستنتاجات:
يتضح من كل ما تقدم أن جيوبولتيكية نقمة المكان، أي تحول دور وأهمية مكان كوردستان، من ارض جبلية لحماية وصيانة ووحدة الأمة الكوردية واستقلالها السياسي الى ساحة تتصارع عليها الجيوش الأجنبية الغازية طمعا في احتلال كوردستان، للتوجه بعدها الى الأقاليم التي تمتد بعدها، وتحويل جبال كوردستان الى ميدان لصراع القوة عبر ذلك الزمن الطويل، وانعكاس مرارة ذلك الصراع
على أهل البلاد فضلا عن تقسيم وتجزئة كوردستان، هو الذي جعلنا نعبر عن تلك الإحداث بـ(نقمة المكان) على أهله. وهذه النقمة أوصلتنا الى الاستنتاجات التالية:-
2- تشير هذه الإحداث التاريخية ونقمها، التي ألحقت بالشعب الكوردي بوضوح لا لبس فيه، الى ان تلك القوى الغازية، العابرة أو المقتحمة، لجبال كوردستان، شرقية كانت أم غربية، كانت كلها قوى منظمة بخلاف الشعب الكوردي الذي كان مشتتا بين قبائل أو إمارات صغيرة وبدون قيادة مركزية
موحدة، وحسبما يقول المؤرخ القدير أ.ل.فشر (ان القوة المنظمة تستطيع دائما ان تهزم الرأي غير المنظم)[41]، وهذا يعني ان الأمة الكوردية كانت ولا تزال أحوج ما تكون الى وحدة الكلمة، ووحدة القيادة، لتجاوز مخاطر وتهديدات نقمة المكان التي لا تزال قائمة.3- ان كل القوى التي غزت الشرق الأوسط، بما فيها كوردستان، بدوية كانت أم حضارية، كلها كانت قوى منظمة، منضبطة تحت قيادة موحدة، لذلك كسبت المعارك وأسست الدول والإمبراطوريات. في حين كان الشعب الكوردي شعبا قبليا مفككا يفتقر للقيادة الموحدة، وكان هذا هو السبب الذاتي المزمن في عدم حصوله على استقلاله، وتشكيل دولته، وبقائه تابعا، وبلاده مجزأة ومدمجة ببلدان أربع حتى الوقت الحاضر.
4- أن جيوبولتيكية نقمة المكان وما ترتب على نتائج المعارك التي عالجها البحث فان الباحث توصل الى الفرضيات الجيوبولتيكية الثلاث التالية بخصوص القوى التي تناوبت السيطرة على كوردستان:
**ان القوة التي تمتلك تلك المفاتيح، كان بإمكانها السيطرة على الأقاليم المجاورة، واحتلالها، وتأسيس الإمبراطورية.
**ان القوة التي ليس لديها مثل هذه القدرات وتمركزت في جزء من هذه الجبال وتخندقت فيه، فان من شأن ذلك، ان يمنحها نوعا من توازن القوى فوق ارض كوردستان، مع أية قوة منافسة أخرى، أوقات الحرب.
[2]-Cart Dahlman، (the political Geography of Kurdistan)، Eurasian geography and economics، vol.43، no.4، 2002، p.271.
[3]- General staff، Mesopotamia expeditionary force، Military report on Mesopotamia، (Aria 9)، Central Kurdistan، Simla، Government monotype press، 1920، p.1
[4] -Ralf S. Solecki، (Shanider: the first flower people)، Alfred A. Knopf، New York، 1971، p.14.
*- قبل تحول طرق التجارة الدولية في العالم القديم من الطرق البرية الى الطرق البحرية، بعد اكتشاف فاسكودي كاما رأس الرجاء الصالح عام1497، كانت كوردستان هي ملتقى تلك الطرق البرية (طرق القوافل)، كالطريق الإمبراطوري الذي فتحه الملك الفارسي داريوس في الحقبة الأخمينية والممتد من سوسه الى ساردس عبر اربيل والذي كان يخترق معظم أراضي كوردستان وطريق الحرير الذي كان يربط الشرق الأقصى بأوربا عبر أراضي كوردستان مع ذلك ضلت كوردستان تتمتع بنفس الأهمية من النواحي العسكرية والإستراتيجية (السوقية) لجيوش القوى المحيطة بها.انظر:
Maria T.O shea، (Trapped between the map and
reality: Geography and perception of Kurdistan)، Routledge، New York، London، 2004، p.18وكذلك: جوناثان راندل، (أمة في شقاق: دروب كردستان كما سلكتها)، ترجمة فادي حمود، دار النهار، بيروت،1997،ص31.
[5]- خارطة كوردستان مطبعة أليأس، القاهرة، 1947،الملحق، ويؤكد ذلك ايضا الدكتور كونتر دشنر في كتابه: أحفاد صلاح الدين، ترجمة عبد السلام مصطفى صديق،1992،213 وKristiina Koivunen في أطروحتهThe Invisible war in North Kurdistan ص79
-Encyclopaedia Universalis، vol، 9، 1968، p.719.
-Encyclopaedia Universalis، Corpus 13، 1989، p.380.
- Maria T.O shea، Op.Cit. p.18.
[6]- دول كبيرة جدا تزيد مساحتها عن 2،5 مليون كم مربعا مثل كندا وروسيا. وهناك دول أخرى تسمى بالدول القزمية مساحتها ما بين نصف كم مربعا، مثل الفاتيكان، و62 كم مربعا مثل سان مارينو. أنظر:-
Martin Ira Glassner، (Political Geography)، Johnwiley&Son Ibc، New York، Singapore، 1993، p. 66.
[7]-General staff، op. cit.، p1.
[8]- دانا ادم شمدت، (رحلة الى الرجال الشجعان)، ترجمة جرجيس فتح الله المحامي، مكتبة دار الحياة، بدون سنة طبع،ص 342.
[9]- جمال حمدان، (الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى: دراسة في الجغرافية السياسية) ومكتبة مدلولي، القاهرة، 1966، ص342.
[10]- بافيج، (كردستان والمسالة الكردية)، ترجمة برو،ط1، 1978، ص 10-12.
[12]- Major H. M. Burton، (The Kurds)، Journal of Royal Central Asian society، vol. Xxxi، part 1، January، 1944، p.72.
[13]- جيمس فيرجريف، (الجغرافيا والسيادة العالمية)، ترجمة علي رفاعة الأنصاري ومحمد عبد المنعم الشرقاوي، مكتبة النهضة العربية، القاهرة، 1956، ص97.
[14]- H. E. Wright، (Pleistocene glaciations in Kurdistan)، Elsceitaltier und Gegenroaart، Band 12،spite، 131-164، Ohringer،Wurtt1،November1961، p.136.
والترجمة العربية: ه. ا. رايت، (العصر الجليدي البلاستوسيني في كوردستان)، ترجمة فؤاد حمه خورشيد، مطبعة دار الجاحظ، بغداد، 1986، ص17.
[15]- Marsh، Dwight W.،) the Tennesseean in Persia and Koordistan (، Philadelphia: presbyterian Board of publication، 1869، p110. and: Maria T .O shea، Op.Cit. pp.19، 25.
[16]-15-Ellen Churchill Semple، (Influences of Geographic Environment on the basis of Ratzel system of Anthropo-Geography)، Kentucky، 1911، p.440.
[17]--Mark R. Major، (No friends but the mountains: assimilation of Kurdistan)، Social Education، vol.30، no، 3، 1996، p.21.
[18]- Ellen Churchill Semple, op. cit. p.440.
[19]- ibid، p.440
[21]-Herodotus، (The History) penguin book، 1984، pp.80-96. And، George Roux (Ancient Iraq) Applicant
book، 1966، p.341.[22]-Mehrdad R. Izady، (The Kurds: A concise Handbook)، Taylor&Frances، Washington D.C.، 1992، p.32-43.
[23]- Ellen Churchill Semple، op.cit.p.485.
[24]- The fall of Nineveh. http//www.livius.org/ne-nn/
[25]- Henry Smith Williams، (The historian history of the world)، Vol.2، 14th Edition، New York، 1926، p. 380، and، Herodotus، op cit.، 81-96.
[26] -Barry porter، (Battle of Gaugamela: Alexander versus Darius)، Military History، September 17، 2002، at www.history net.com.
[27]- للتفاصيل راجع: أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، (تاريخ الطبري)، ج5، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، 1998، ص318.
[28]- عزالدين ابوالفتح علي، (الكامل في التاريخ) ج2، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1989، ص186.
[29]- عايدة العلي سري الدين، (المسالة الكردية في ملفات الس